2014-12-20 14:36:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ المَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها الناصِرَة، إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ الفتاة مَريَم. فدَخَلَ إلَيها فَقال: "السّلامُ عليكِ، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ". فداخَلَها اضطرابٌ شَديدٌ لِهذا الكَلامِ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام. فقالَ لها المَلاك: "لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابنًا فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيمًا وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية" فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟" فأَجابَها المَلاك: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ المَولودُ قُدُّوسًا وَابنَ اللهِ يُدعى. وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضًا بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِرًا. فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله". فَقالَت مَريَم: "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ". وَانصرَفَ المَلاكُ مِن عِندِها (لوقا 1، 26- 38).

للتأمل

في هذا الأحد الأخير من زمن المجيء تدعونا الكنيسة للتأمل بحدث بشارة العذراء. إن البشارة لمريم هي أيضًا للعالم أجمع: منها سيولد المخلّص المسيح المنتظر، وهي المخطوبة لرجل اسمه يوسف من سلالة داود الملك، لكنّ الله أرادها أمًّا بتولاً للكلمة ابن الله المتجسّد، يسوع المسيح، بقوّة الروح القدس، وأمًّا روحيّة بالنعمة للجنس البشريّ المفتدى بدم ابنها الإلهي، وأمًّا للكنيسة التي هي المسيح الكلي: المسيح الرأس وجسده المؤلّف من جماعة المعمّدين.

في هذه البشارة تحقّق وعد الله بالخلاص، ذلك الوعد الذي أبرمه الله مع إبراهيم ونسله. وفي البشارة تتجلّى كرامة العائلة وقدسيّتها ودعوتها. مع البشارة لمريم يبدأ عهد جديد هو دخول كلمة الله في صميم العائلة البشريّة، متّخذًا طبيعة إنسانيّة من مريم العذراء، وفي تاريخ الجنس البشريّ مفتديًا إيّاه من عبوديّة الخطيئة والشر، وفي كلّ ثقافة بشريّة موجّهًا إيّاها إلى كلّ حقّ وخير وجمال.

في البشارة يتجلّى سرّ يسوع المسيح: إنّه ابن الله، الذي "أصوله منذ القديم منذ أيّام الأزل" (ميخا 5/1)، وهو "كلمة الآب" (يو 1/1-2)، وابن مريم بالجسد في الزمن. حقيقة مزدوجة أعلنها يوحنّا الرسول: "والكلمة صار بشرًا، وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجد ابن وحيد آت من الآب، ملآن نعمة وحقًّا" (يو 1/14)، وكتب عنها بولس الرسول: "لمّا بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا في حكم الشريعة، لكي يفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتّى ننال البنوّة" (غلاطية 4/4-5).

ومع البشارة يبدأ شعب جديد هو الكنيسة المؤلّفة من جماعة الذين قبلوا الكلمة الإلهي، يسوع المسيح، النور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان آت إلى العالم، وآمنوا باسمه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، هم الذين، لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا" (يو 1/13، 12، 9).

البشارة لمريم هي للكنيسة وللبشريّة جمعاء، لأنّ هذه ستكون أمّ الإله المتجسّد، المسيح التاريخيّ، وستكون أيضًا أم أعضاء جسده السريّ، المسيح الكليّ، الذين ستساهم بحبّها في ولادتهم الجديدة (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 53). أم المسيح الكليّ هي "أمّ الكنيسة" (البابا بولس السادس، 21/11/1964). لهذا السبب حيّاها جبرائيل بسلام الفرح والتغبيط: "السلام عليك! افرحي! ولا تخافي! لأنّك نلتِ حظوة عند الله" (لو 1/28و30). هذه الحظوة هي للبشريّة بأسرها التي يشملها عهد الفداء. فمن مريم، التي حظيت بشرف الأمومة للإله وللكنيسة، تفيض بواسطتها النعمة الإلهية على البشريّة جمعاء، بوصفها الشريكة في التجسّد والفداء. ولهذا السبب ما ناداها الملاك باسمها عندما حيّاها، بل سمّاها "ممتلئة نعمة". هذه التسمية تكشف سرّ مريم الغنيّ بالأوصاف.

إنّها بريئة من دنس الخطيئة الأصليّة، لأنّ النعمة الإلهية ملأتها منذ اللحظة الأولى لوجودها، فلم تعرف الخطيئة، لا الأصليّة ولا الفعليّة. وهي البتول والأمّ، وقد ظلّت بتولاً قبل الميلاد وفيه وبعده، بقدرة الله الفاعلة فيها بحلول الروح القدس، هذا معنى قول الملاك:"الربّ معك"، لتأكيد واقع حاضر فيها، لا مجرّد دعاء. وبذلك هي مثال الأمومة والأبوّة الروحيّة للّذين يكرّسون بتوليّتهم لله وللكنيسة بنذر العفة، سواء في الحياة الرهبانيّة أم في الحياة المكرّسة وسط العالم. وهي مثال الكنيسة، الأمّ والبتول (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 63)، وقدوة لها في الإيمان والرجاء والمحبّة، بفضل اتّحادها الكامل بإرادة الآب، ومشاركة ابنها في عمل الفداء، وقبول إلهامات الروح القدس (التعليم المسيحيّ،967).

البشارة لمريم لا تعلن فقط دخول ابن الله وفادي الإنسان عائلة يوسف ومريم، مولودًا بالجسد بقوّة الروح القدس، وإنّما تكشف أيضًا كرامة العائلة المسيحيّة وطهارة الحبّ الزوجيّ وقدسيّة الحياة بفضل حضور الله الثالوث فيها. زر يا ربّ بحبّك عائلتنا المجتمعة أمامك، واجعلها كنيسة مصغّرة بيتيّة، تشهد لك. أبعد عنها كلّ خلاف. رسّخها في الإيمان والرجاء والمحبّة. إحمها من المصائب. قوّها في الشدائد. وحدّها برباط المحبّة والسلام. وأعطها قوّة روحك، فنكون حجارة حيّة في بناء كنيستك. لك المجد إلى الأبد. آمين.








All the contents on this site are copyrighted ©.