2015-02-21 08:53:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلك الزمان: أَخَرجَ الرُّوحُ يسوعَ إِلى البَرِّيَّة، فأَقام فيها أربَعينَ يَومًا يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه. وبَعدَ اعتِقالِ يوحَنَّا، جاءَ يسوعُ إِلى الجَليل يُعلِنُ بِشارَةَ الله، فيَقول: "حانَ الوقت وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" (مرقس 1، 12- 15).

للتأمل

بعد اعتقال يوحنا المعمدان، يبدأ يسوع رسالته في الجليل ويستخدم في إعلانه أربعة أفعال: حان الوقت، اقترب الملكوت، توبوا، وآمنوا بالبشارة. ثم يشرع في دعوة تلاميذه، وما أن يسمعوا نداءه حتى يتركوا الأهل والعمل والأصدقاء ليتبعوه. والأمران، البشارة والدعوة، مرتبطان بعضهما ببعض، فيمكننا أن نفهم مغزى الأفعال الأربعة من خلال ما يحدث للتلاميذ الأوّلين، وأن ندرك ما صار للتلاميذ حين نتعمّق في معنى كلمات يسوع.

وبوسعنا أن نتساءل: ماذا حدث لهؤلاء الرجال حتى يتركوا كلّ شيء ويتبعوا يسوع؟ ما السرّ الذي يكمن في كلماته؟ لا يترك إنسان كلّ شيء إلا إذا وجد كلّ شيء، ونحن لا نترك ما هو رائع وعظيم وقيّم إلا إذا وجدنا ما هو أروع وأعظم وأقيم. فما هو أفضل من الأهل والبيت والعمل، وما هو أحسن من الدفء العائليّ والحنان الأسريّ والنجاح المهنيّ والاجتماعيّ؟ إنّه الذات.

لقد وجد سمعان وإندراوس ويعقوب ويوحنا أنفسهم في شخص يسوع، ومن ثَم وجدوا معنى حياتهم وقيمتها في الارتباط بشخصه. كلّ ما وهبتهم الدنيا، من أهل وأصدقاء وعمل، جميل وحلو، ولكن ما قيمة هذا كلّه إذا لم يجد الإنسان نفسه وفقد هويّته؟ وماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ إنّ يسوع هو من يرافق الإنسان في بحثه عن ذاته، عن الحقيقة والصدق في داخله، ويسير معه في سعيه نحو أعماقه ليجد ما يسعد قلبه حقًّا وينيره بنور لا تدركه أيّ ظلمة.

وهذا هو معنى مجيء الوقت واقتراب ملكوت الله، فالله من خلق الإنسان على صورته كمثاله يأتي إليه ليقوده إلى نفسه، ليصالحه مع ذاته وتاريخه بكلّ ما يحمله من ذكريات طيّبة ومؤلمة، من نجاح وجروح، من صلاح وخطيئة. في يسوع، وجد التلاميذ قلب الله الآب الذي يحبّهم إلى المنتهى ويعطيهم ابنه أخًا ورفيقًا وصديقًا ومخلّصًا، يمشي معهم على دروب الحياة ليصالحهم مع أنفسهم فيرسلهم أخوة للبشر العطشانين للحبّ والتفهّم والتقدير. شعر التلاميذ بقبول يسوع لهم كما هم، فقبلوا أن يحبّوا أنفسهم وأن يحتضنوا تاريخهم وكيانهم لأنّهم اكتشفوا أنّ الله حاضر معهم في كلّ تفاصيل واقعهم وسائر مراحله، وأنّ لا شيء خفيّ عن نوره ومحبّته.

إنّ يسوع هو من يعلّمنا حبّ أنفسهم، فيمكننا أن نحبّ الآخرين كما يحبّهم ويحبّنا، وأن ننظر إلى اللؤلؤة الثمينة الكامنة في أعماقهم، ألا وهي صورته فيهم وشغفه بهم ورغبته العظيمة في أن يهب ذاته لهم كما فعل معنا. وقد تاب التلاميذ عن بحثهم عن السعادة خارجًا عن أنفسهم إذ اكتشفوا الله حاضرًا فيهم يدعوهم إلى التقائه في عمق حياتهم، وخرج التلاميذ من انغلاقهم على ذواتهم وعدم رؤيتهم لنداء الحياة الواسع والمتمثّل في الناس المتخبّطين على طرق الحياة. لقد آمنوا بنداء الحبّ والفرح والحياة الذي يدعوهم إليه يسوع، وقد صدّقوا مغفرته العميقة لهم فتصالحوا مع خبرات الفشل والحزن في حياتهم. بنعمة يسوع قبلوا حياتهم كهبة حبّ عظيم من يد الله، لا يوصف ولا يحدّ، لا يدرك ولا ينتهي.

لقد وجد التلاميذ ذواتهم وحرّيتهم مع يسوع، فانطلقوا معه يرافقونه، يتعلّمون منه حبّ الناس واحترامهم، والكد من أجل سعادتهم وكرامتهم وحرّيتهم. صاروا أبناءً حقًّا فتركوا حياة الأجراء، وانفتحت قلوبهم وعيونهم على آفاق العالم البائس والمشتّت، ذاك المنتظر رعاة يبذلون أنفسهم في سبيله على مثال يسوع الراعي الصالح. لم يتنكر التلاميذ للأهل والأصدقاء، ولم يرفضوا تعب العمل وجهد الحياة، بل وجدوا أنفسهم بنعمة يسوع، فعرفوا كيف يكونون أولادًا لأهلهم، رفقاءً لأصدقائهم، وصار العمل وسيلة لبناء مجتمع أكثر عدلاً ووفرةً وسخاءً، لا للغنى الشخصيّ واكتناز الخيرات. استمر التلاميذ في علاقاتهم الاجتماعيّة ولم يديروا ظهورهم لأحبّائهم، كملوا عملهم كصيادين، ولكنّ كلّ شيء قد تغيير بفضل معرفتهم يسوع. صار للحياة معنىً جديدًا، عرفوا طعم الفرح والسلام الداخلي الذي لا ينزعه أحد، وامتلأت حياتهم بالشفقة والتضامن مع سائر الناس.

حان الوقت، أقترب الملكوت، نعم بالحقّ ينادينا يسوع نحو ذواتنا، يدعونا إلى الإيمان بمحبّته ونعمته ومغفرته، فنتوب عن أنانيّتنا وخوفنا وحساسيّتنا المفرطة التي تخنقنا، ونتحرّر من حزننا واليأس الذي يخلع عنا فرح الحياة. وإذا وجدنا أنفسنا فيه، لا يمكننا أن ننظر إلى الوراء، أو نتلكأ في النهوض، لأنّ حضوره في حياتنا نور ونار، سعادة غامرة وفرح شديد، ولا يسعنا أن نكتمه في داخلنا، بل أن ننقله إلى أخوتنا البشر من حولنا وفي كلّ مكان.

 








All the contents on this site are copyrighted ©.