2015-08-29 10:53:00

الإنجيل وقفة تأمل عند كلمة الحياة


في ذلك الزَّمان: اجتَمَعَ لَدَى يسوعَ الفِرِّيسِيُّونَ وبَعضُ الكَتَبَةِ الآتينَ مِن أُورَشَليم، فرَأَوا بعضَ تَلاميذِهِ يَتناوَلونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة، أَيْ غَيرِ مَغْسولة لأَنَّ الفِرِّيسِيِّينَ واليهودَ عامَّةً لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغسِلوا أَيدِيَهُم حتَّى المِرفَق، تَمَسُّكًا بِسُنَّةِ الشُّيوخ. وإذا رجَعوا مِنَ السُّوق، لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغتَسِلوا. وهُناكَ أَشياءُ أُخرى كَثيرةٌ مِنَ السُّنَّةِ يَتمسَّكونَ بها، كَغَسْلِ الكُؤُوسِ والجِرارِ وآنِيَةِ النُّحاس. فسأَلَه الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبة: "لِمَ لا يَجري تَلاميذُكَ على سُنَّةِ الشُّيوخ، بل يَتَناولونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة؟" فقالَ لهم: "أَيُّها المُراؤون، أحسَنَ أَشَعْيا في نُبُوءتِه عَنكم، كما وَرَدَ في الكِتاب: "هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي. إِنَّهم بالباطلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعَلِّمونَ مِنَ المذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيُّة". إِنَّكم تُهمِلونَ وصِيَّةَ الله وتَتمَسَّكونَ بِسُنَّةِ البَشَر". ودعا الجَمعَ ثانِيةً وقالَ لَهم: "أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا: ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان". لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والغِشُّ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه" (مرقس 7، 1- 8. 14- 15. 21- 23).

للتأمّل

إن محور المسيرة الروحيّة، محور الكتاب المقدّس، هو قلب الإنسان. يقول أوريجانس، وهو من كبار لاهوتيّي الكنيسة في القرن الثاني، إنّ التدبير الإلهيّ يقوم على أنّ الله يقود الإنسان إلى طاعته، ولكن بحرّيّة. لا يريد الله أن يكون إله أمر واقع، إلهًا مفروضًا، يعبده الناس عن خوف لا عن حبّ. فما يهمّ الله لا الظاهر بل القلب، لا الشرائع بل الحبّ، لا الطقوس بل الرحمة، نقرأ في رسالة يعقوب: "إِنَّ التَّدَيُّنَ الطَّاهِرَ النَّقِيَّ عِندَ اللهِ الآب هو العِنايَةُ بالأَيتامِ والأَرامِلِ في شِدَّتِهِم وصِيانَةُ الإِنسانِ نَفْسَه مِنَ دَنَسِ العالَم."

كلّ الكتاب المقدّس بعهديه يدلّ على قلب الإنسان. يقول المزمور 40: "ذبيحة وتقدمة لم تشأ، لكنّك فتحت أذنيّ، ولم تطلب محرقة وذبيحة خطيئة، حينئذ قلت هاءنذا آت فقد كُتب عليّ في طيّ الكتاب: هواي أن أعمل مشيئتك يا الله، شريعتك في صميم أحشائي"، أي في قلبي. وكذلك يقول المزمور 51 (ارحمني يا الله): "فإنّك لا تهوى الذبيحة وإذا قرّبت محرقة لا ترتضي بها، إنّما الذبيحة لله روح منكسر، القلب المنكسر المنسحق لا تزدريه يا الله." ولذلك يقول هوشع النبيّ عن الله: "إنّما أريد رحمة لا ذبيحة، معرفة الله أكثر من المحرقات." (6:6). وكذلك يعد الله في كتاب حزقيال: "وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمكم قلب الحجر وأعطيكم قلبًا من لحم" (36: 26).

ولكن لكي ننال هذا القلب الجديد الموعود، يجب علينا أن نطلبه، فالله كما قلنا لا يفرض عطاياه فرضًا. ولكي نطلب قلبًا جديدًا علينا أن نعرف قساوة قلوبنا. طالما أنّنا لم نعرف ونقتنع أنّنا بحاجة إلى الخلاص لأنّ قلوبنا قاسية منها تخرج كلّ نجاسة كما سمعنا في الإنجيل اليوم، وطالما أنّنا لم نعرف أنّ قلب الإنسان خادع وخبيث، كما يقول إرميا (17: 9)، لا يسعنا أن نسأل الله قلبًا جديدًا. من يحكم على الآخر وكأنّه هو بلا خطيئة كيف يطلب القلب الجديد؟ ومن يظنّ نفسه بارًّا كالفرّيسيّ كيف ينال الخلاص؟ ومن يسمح لنفسه ما لا يقبله من الآخر كيف يدّعي أنّ الله مخلّصه؟ التديّن الحقيقيّ قائم على معرفة قساوة قلوبنا وعلى الرغبة في قلب جديد، قادر على الحبّ.

والكتاب المقدّس يظهر لنا القلب الموعود حين يظهر لنا قلب يسوع، القلب البشريّ الّذي يكشف لنا عن القلب الإلهيّ. ربّما تكون كلّ حياتنا المسيحيّة مُختصرة في هذه الطلبة: اجعل قلبنا مثل قلبك. فالله وحده قادر على الحبّ، ويسوع الإنسان أظهر أنّ البشر قادرون على قبول حبّ الله في قلوبهم. المبدأ والأساس في الحياة المسيحيّة أن يصير طموحي الأوّل بل الوحيد هو أن أنال هذا القلب الموعود، وكلّ طموح آخر هو في سبيل هذه الغاية الأولى والأفضل. حينئذ تصير كلّ الممارسات الدينيّة وكلّ الوصايا وكلّ الصلوات تهيئة وتحضير لكي ينمو فينا الحبّ الإلهيّ ويكون فينا قلب مثل قلب الله. هذه هي الحياة الأبديّة الّتي لا تبدأ بعد الموت، بل تبدأ فينا اليوم.

والواجب الدينيّ والروحيّ الأساسيّ لكي ننمو في معرفة قساوة قلوبنا ومعرفة قلب الله هو في الإصغاء إلى كلمته، فنحن نحبّ على قدر ما نعي أنّنا محبوبون وكلمة الله هي الّتي تقول لنا أيّ حبّ أحبّنا به الله. لذلك يقول القديس يعقوب في رسالته: "شاءَ أَن يَلِدَنا بِكَلامِ الحَقّ لِنَكونَ كمِثْلِ باكورَةٍ لِخَلائِقه. وتَقبَّلوا بِوَداعةٍ ما غُرِسَ فيكم مِنَ الكَلام، فَإِنَّه قَديرٌ على أَن يُخَلِّصَ نُفوسَكم. وكونوا مِمَّن يَعمَلونَ بهذا الكلام، لا مِمَّن يَكتَفونَ بِسَماعِه فيَخدَعونَ أَنفُسَهم." في الصلاة وفي الاحتفال بالإفخارستيّا نحن نسمع حبّ الله في الكتاب وفي أعماق القلب، وفي الذبيحة نحن نرى بعيون الإيمان ما صنع المسيح من أجلنا، لكي نصير مثله قادرين على الحبّ. لئلاّ يكون إكرامنا بالشفتين، بل ليصير قلبنا قريب منه، ليصير قلبنا مثل قلبه.








All the contents on this site are copyrighted ©.