2017-03-25 10:54:00

البابا فرنسيس يستقبل رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي


استقبل قداسة البابا فرنسيس مساء الجمعة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستين لتوقيع المعاهدات المؤسِّسة للجماعة الأوروبيّة الاقتصاديّة والجماعة الأوروبية للطاقة الذريّة وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها لا يمكن للعودة إلى روما بعد ستين سنة أن تكون رحلة في الذكريات وحسب وإنما الرغبة في إعادة اكتشاف الذكرى الحيّة لذاك الحدث لنفهم معناه في الحاضر. ينبغي علينا أن نتماثل مع تحديات الماضي لنواجه تحديات اليوم والمستقبل. برواياته المفعمة بالذكريات يقدّم لنا الكتاب المقدّس أسلوبًا تربويًّا أساسيًّا: لا يمكننا أن نفهم الزمن الذي نعيشه بدون الماضي ولكن لا كمجموعة أحداث بعيدة وإنما كعنصر حيويّ يروي الحاضر. لقد كان الخامس والعشرين من آذار مارس عام 1957 يومًا محمّلاً بالانتظارات والرجاء والحماس، وذكرى ذاك اليوم تتحد برجاء اليوم وانتظارات الشعوب الأوروبيّة التي تطلب تمييز الحاضر لمتابعة المسيرة بدفع متجدّد وثقة. وقد تيقَّن لهذا الأمر الآباء المؤسسين والقادة الذين أعطوا الحياة لذلك الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي ولاسيما البشري الذي ندعوه اليوم الاتحاد الأوروبي.

تابع الأب الأقدس يقول بعد سنوات الحرب العالميّة الثانية المُظلمة والوحشيّة آمن قادة ذلك الزمن بإمكانية الحصول على مستقبل أفضل فلم تنقصهم الشجاعة وتصرّفوا بسرعة. وبدا أن ذكرى البلايا الماضية وأخطائها قد ألهمتهم ومنحتهم الشجاعة الضرورية كي ينسوا الخلافات الماضية ويفكّروا ويتصرّفوا بأسلوب جديد ليحققوا أكبر تحوّل لأوروبا. يذكّرنا الآباء المؤسسين أن أوروبا ليست مجموعة قواعد ينبغي الحفاظ عليها، وإنما هي حياة وأسلوب في فهم الإنسان انطلاقًا من كرامته السامية وغير القابلة للتصرّف. وإن ظهر واضحًا منذ البداية أن القلب النابض للمشروع السياسي الأوروبي هو الإنسان، كان جليًّا أيضًا خطر أن تبقى المعاهدات مجرّد حبر على ورق، لذلك وجب أن تُملأ بروح حيوي وأول عنصر للحيويّة الأوروبيّة هو التضامن. فالجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة تحيا وتنجح فقط إن بقيت أمينة لروح التضامن الأوروبي الذي خلقها وإن كانت الرغبة الأوروبيّة المشتركة أقوى من الرغبات الوطنيّة.

أضاف الحبر الأعظم يقول من التضامن تولد القدرة على الإنفتاح على الآخرين. ففي عالم يعرف جيدًا مأساة الجدران والانقسامات، ظهرت جليّة أهميّة العمل من أجل أوروبا متّحدة ومنفتحة والرغبة المشتركة في الالتزام من أجل نزع ذلك الحاجز غير الطبيعي الذي كان يقسم القارة من بحر البلطيق إلى البحر الأدرياتيكي. لقد كان متعبًا جدًّا إسقاط هذا الجدار! ومع ذلك لقد فقدنا اليوم ذكرى ذلك التعب، وفقدنا اليقين أيضًا بمأساة العائلات المنفصلة والفقر والبؤس اللذين سببهما الانقسام. وفي فراغ الذاكرة الذي يميّز أيامنا غالبًا ما ننسى أيضًا إنجازًا آخر ثمرة التضامن الذي أُبرم في الخامس والعشرين من آذار مارس عام 1957: أطول فترة سلام خلال القرون الماضية. إن السلام يُبنى على الدوام من خلال المساهمة الحرّة والواعية لكل فرد. مع ذلك يبدو السلام اليوم بالنسبة لكثيرين خيرًا بديهيًّا، وبالتالي ينتهي الأمر باعتباره أمرًا إضافيًّا. لكن على العكس لأنّ السلام هو خير ثمين وجوهري وبدونه لا يمكننا أن نبني مستقبلاً لأحد. في الواقع تولد أوروبا الموحّدة من مشروع واضح ومحُدَّد ومُتنبّه بشكل ملائم، لأن كل مشروع جيّد يتطلّع إلى المستقبل، والشباب هم المستقبل وهم مدعوون لتحقيق وعوده. وقد أدرك الآباء المؤسسين بوضوح أنّهم جزء من عمل مشترك لا يتخطى فقط حدود الدول وإنما أيضًا حدود الزمن ليربط الأجيال فيما بينها فتشارك جميعها في بناء البيت المشترك.

تابع البابا فرنسيس يقول لقد تغيّر العالم كثيرًا خلال السنوات الستين الأخيرة. وإن كان الرجاء بمستقبل أفضل يحرّك الآباء المؤسسين العازمين على تحقيقه؛ فزمننا يطبعه مبدأ الأزمة. هناك أزمة اقتصادية طبعت السنوات العشرة الأخيرة، هناك أزمة في العائلة وفي النماذج الاجتماعيّة الثابتة، هناك أزمة في المؤسسات وأزمة المهاجرين. ومع ذلك فإن عبارة أزمة ليست سلبيّة بحدِّ ذاتها، فهي لا تشير فقط إلى مرحلة سيئة ينبغي تخطّيها لأن أصولها من الفعل اليونانيّ "κρίνω" تعني الاستقصاء والتمحيص والحكم والتقييم. وبالتالي فزمننا هو زمن تمييز ويدعونا لنبحث عن الجوهري ونبني عليه: إنّه إذًا زمن تحديات وفرص. ما هو التفسير الذي يمكننا من خلاله إذًا أن نقرأ صعوبات الحاضر ونجد الأجوبة للمستقبل؟ تبقى ذكرى فكر الآباء عقيمة ما لم تساهم في إظهار المسيرة وما لم تصبح دافعًا للمستقبل وينبوع رجاء. ما هو إذًا إرث الآباء المؤسسين؟ وما هي الرؤى التي يظهرونها لنا كي نواجه التحديات التي تنتظرنا؟ وما هو رجاء أوروبا اليوم وغدًا؟ نجد الأجوبة في الأعمدة التي بنى الآباء عليها الجماعة الاقتصادية الأوروبيّة والتي ذكرتها سابقًا وهي: محوريّة الإنسان والتضامن الفعّال والانفتاح على العالم وتحقيق السلام والنمو والانفتاح على المستقبل.

أضاف الحبر الأعظم يقول إن أوروبا ستجد الرجاء عندما يكون الإنسان محور وجوهر مؤسساتها؛ وهذا الأمر يعني الإصغاء المتنبه والواثق للمتطلبات المتأتيّة من الأفراد ومن المجتمع ومن الشعوب التي تكوِّن هذا الاتحاد. إن التأكيد على محوريّة الإنسان يعني أيضًا إعادة اكتشاف روح العائلة الذي يساهم من خلاله كل فرد بحريّة وبحسب قدراته ومواهبه في البيت المشترك. لذلك من الأهمية بمكان التيقن إلى أن أوروبا هي عائلة من الشعوب. وكما في كل عائلة صالحة يمكن للجميع أن ينموا بقدر ما يتحدون مع بعضهم البعض. إن الاتحاد الأوروبي يولد كوحدة في الاختلاف واختلاف في الوحدة وبالتالي هو تناغم جماعة، لذلك يحتاج الاتحاد الأوروبي اليوم لإعادة اكتشاف معنى أنّه جماعة أشخاص وشعوب. تجد أوروبا الرجاء مجدّدًا في التضامن الذي يشكّل الترياق الأكثر فعاليّة للنزعات الشعبويّة المعاصرة. فالتضامن يتضمّن أيضًا الإدراك بأننا جزء من جسد واحد ويتطلّب من كل فرد القدرة على التعاطف مع الآخر ومع الكل. فإن تألّم أحد يتألّم الجميع، ولذلك نبكي نحن اليوم أيضًا مع إنكلترا ضحايا الاعتداء الذي ضرب لندن منذ يومين.

تابع البابا فرنسيس يقول تجد أوروبا الرجاء مجدّدًا عندما لا تنغلق في خوف ضمانات زائفة. لأنّ تاريخها يحدّده اللقاء مع شعوب وثقافات أخرى وهويّتها كانت ولا تزال هويّة ديناميكيّة ومتعددة الثقافات. تجد أوروبا الرجاء مجدّدًا عندما تستثمر في النمو والسلام. فالنمو ليس مجرّد مجموعة تقنيات إنتاجيّة، بل هو يطال الكائن البشري بأسره: كرامة عمله وظروف الحياة الملائمة وإمكانيّة الحصول على التعليم والعلاجات الطبيّة الضروريّة، لأن النمو هو الاسم الجديد للسلام. تجد أوروبا الرجاء مجدّدًا عندما تنفتح على المستقبل وعندما تنفتح على الشباب وتقدّم لهم رؤى تربية جديّة وإمكانيات حقيقيّة للانخراط في عالم العمل وعندما تستثمر في العائلة الخليّة الأولى والأساسيّة في المجتمع.

وختم قداسة البابا فرنسيس كلمته لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي بالقول إن الاتحاد الأوروبي مدعو اليوم أيضًا ليُسائل نفسه ويعتني بالأمراض التي تأتي حتمًا مع تقدم السن، وأن يجد سبلاً جديدة لمتابعة مسيرته. لكن وعلى عكس الإنسان، لا يواجه الاتحاد الأوروبي الشيخوخة التي لا مفر منها، وإنما إمكانية شباب جديد. ونجاحه سيعتمد على الرغبة في العمل معا مرة أخرى، والاستعداد للمراهنة على المستقبل. وبصفتكم قادة، أنتم مدعوون كي تشقّوا الدرب لـ "أنسنة أوروبية جديدة" تقوم على المثل العليا والأعمال الملموسة. وهذا يعني عدم الخوف من اتخاذ قرارات عملية فعّالة قادرة على الإجابة على مشاكل الناس الحقيقية والتصدّي لمحن الزمن وتجاربه.  








All the contents on this site are copyrighted ©.