2018-03-25 09:27:00

تأمُّلات رتبة درب الصليب


مقدِّمة

إن نصوص تأملات المراحل الأربعة عشرة لرتبة درب الصليب لهذا العام قد كتبها خمسة عشر شابًا تتراوح أعمارهم بين ۱٦ و۲۷ سنة. وبالتالي نجد حداثتين: الأولى ولا مثيل لها في نسخات الماضي وتتعلّق بعمر الكتّاب الشباب والمراهقين (تسعة منهم هم تلاميذ في ثانوية روما بيلو ألبيرتيلّي) والثانية وتشير إلى بُعد "الجوقة" الذي يميِّز هذا العمل، ولذلك فالموسيقى التي تنبعث من هذه النصوص هي سمفونيّة مؤلّفة من العديد من الأصوات والنغميّات والأطباع الصوتيّة المختلفة، لأنّه لا وجود "للشباب" وإنما لفاليريو وماريا ومارغيريتا وفرانشيسكو وكيارا وغريتا... بحماسة عمرهم انكبّوا على التحدّي الذي اقترحه عليهم البابا خلال هذا العام ۲۰١۸ المخصَّص بشكل عام للأجيال الشابة. لقد قاموا بذلك بأسلوب عمل دقيق: اجتمعوا حول طاولة وقرأوا نصوص آلام المسيح بحسب الأناجيل الأربعة. وضعوا أنفسهم أمام مشهد درب الصليب و"رأوه". بعد القراءة، مع احترام الوقت الضروري، عبّر كل شاب عن المشهد المميّز الذي أثَّر به، فكان هكذا توزيع المراحل أسهل وطبيعيًّا. ثلاث كلمات أساسيّة، ثلاثة أفعال تطبع إعداد هذه النصوص: أولاً وكما أشرنا سابقًا: النظر ومن ثمَّ اللقاء وأخيرًا الصلاة.

عندما يكون المرء شابًا يريد أن يرى، أن يرى العالم ويرى كلَّ شيء. إنَّ مشهد جمعة الآلام قويٌّ حتى في فظاعته: رؤيته قد يدفعنا إلى النفور أو إلى الرحمة وبالتالي للذهاب للقاء. تمامًا كما يفعل يسوع في الإنجيل يوميًّا وفي هذا اليوم أيضًا، الأخير. يلتقي بيلاطس وهيرودس والكهنة والحراس ووالدته والقيرواني ونساء أورشليم واللصين آخر رفيقين له على الدرب. عندما يكون المرء شابًا يشكِّل كلُّ يوم مناسبة للقاء أحد ما وكلُّ لقاء هو جديد ومُدهش. نشيخ عندما نرفض رؤية أحد وعندما يتغلّب الخوف – الذي يجعلنا ننغلق – على الإنفتاح الواثق. الخوف من التغيير لأنَّ اللقاء يعني تغييرًا واستعدادًا للإنطلاق مجددًا في مسيرة بأعينٍ جديدة. إن النظر واللقاء يدفعاننا في النهاية إلى الصلاة لأن النظر واللقاء يولِّدان الرحمة حتى في عالم يبدو خالٍ من الرأفة وفي يوم كهذا متروك للغضب التافه والجُبن والكسل الغافل للبشر. لكن إن تبعنا يسوع بواسطة القلب وعبر مسيرة الصليب السريّة عندها يمكن للشجاعة والثقة أن تولدا مُجدّدًا وبعد أن نكون قد انفتحنا على اللقاء يمكننا أن نختبر نعمة الصلاة وليس وحدنا بعد الآن بل معًا.

المرحلة الأولى: يسوع يُحكَم عليه بالموت

فقالَ لَهم ثالثةً: "فأَيَّ شَرٍّ فَعَلَ هذا الرَّجُل؟ لم أَجِد سَبَباً يَستَوجِبُ به الموت، فسأُعاقِبُه ثُمَّ أُطلِقُه. فأَلَحُّوا علَيه بِأَعلى أَصواتِهِم طالبينَ أَن يُصلَب، وَاشتَدَّ صِياحُهم. فقَضى بيلاطُسُ بِإِجابَةِ طَلَبِهم. فأَطلَقَ مَن كانَ قد أُلقِيَ في السِّجنِ لِفِتنَةٍ وجريمةِ قَتل، ذاكَ الَّذي طلَبوه، وأَسلَمَ يسوعَ إِلى مَشيئَتِهِم. (لوقا ۲۳، ۲۲- ۲٥).

أراك يا يسوع أمام الحاكم الذي ولثلاث مرات يحاول أن يصُدَّ مشيئة الشعب ويختار في النهاية عدم الاختيار، إزاء الجمع الذي ولثلاث مرّات سئِل وقرّر دائمًا ضدّك. الجمع، أي الجميع، أي لا أحد. إذ يختبئ في الجمع يفقد الإنسان شخصيّته والصوت هو صوت آلاف الأصوات الأخرى. وقبل أن يُنكرك، يُنكِر نفسه، ويبدِّد مسؤوليّته في المسؤوليّة المُتقلِّبة للحشدِ الذي لا وجه له. ومع ذلك هو مسؤول. وإذ أزاحته محركات الشرِّ الذي ينتشر بصوت مخادع وصاخب، حكم عليك الإنسان بالموت. نحن نرتعب اليوم أمام هذا الظلم، ونريد أن نبتعد عنه. ولكن إن فعلنا ننسى جميع المرات التي كنا فيها أول من اختار إطلاق سراح بارباس بدلاً عنك. عندما كانت آذاننا صمّاء على الدعوة إلى الخير وعندما فضَّلنا عدم رؤية الظلم أمامنا. في تلك الساحة المُكتظّة، كان يكفي لقلب واحد أن يشُك، ولصوت واحد أن يرتفع ضدَّ آلاف أصوات الشر. في كلِّ مرّة تضعنا الحياة أمام خيار ما لنتذكّر تلك الساحة وذلك الخطأ، ولنسمح لقلوبنا أن تشُكَّ ولنفرض على صوتنا أن يرتفع.

أسألك يا رب أن تسهر على خياراتنا، وتُنرها بنورك، إزرع فينا قدرة مُساءلة ذواتنا: لأنَّ الشرَّ وحده لا يشُكّ. إنَّ الأشجار التي تتجذّر في الأرض بعمق إن سقتها مياه الشرِّ تذبُل، ولكنّك وضعت جذورنا في السماء وأغصاننا على الأرض لكي تتعرّف عليك وتتبعك.

المرحلة الثانية: يسوع يحمل الصليب

ودَعا [يسوع] الجَمعَ وتَلاميذَه وقالَ لهم: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَليَزهَد في نَفسِه ويَحمِل صَليبَه ويَتبعني. لأنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها" (مرقس ۸، ۳٤- ۳٥).

أراك يا يسوع مُكلّلاً بالشوك، فيما تقبَل صليبَك. تقبله كما قبِلتَ على الدوام كلَّ شيء وكلَّ شخص. يحمِّلونك الصليب الثقيل والخَشِن، ولكنّك لا تثور ولا ترمي بعيدًا أداة التعذيب الظالمة والدنيئة هذه. تأخذه وتبدأ بالسير حاملاً إياه على كتفيك. كم من مرّةٍ ثُرتُ وغَضِبتُ إزاء المسؤوليات التي نلتها وشعرتُ أنّها ثقيلة أو ظالمة. أنت لا تفعل هكذا. أنت أكبر مني ببعض سنوات فقط وقد يقال عنك اليوم أنك لا تزال شابًا ولكنّك مُطيع وتأخذ على محمل الجدِّ ما تقدِّمه لك الحياة، في كلِّ مناسبة تظهر أمامك كما ولو كنت تريد الذهاب إلى عمق الأمور لتكتشف أن هناك على الدوام شيئًا ما أكثر مما هو ظاهر ومعنى خفيًّا ومدهشًا. بفضلك أفهم أنَّ هذا الصليب هو صليب خلاص وتحرير، صليب عضدٍ عند العوائق، وحمل خفيف ونير لا يُثقِّل. من عار موت ابن الله، موت الخاطئ واللص تولد النعمة لنكتشف مجدّدًا القيامة في الألم، ومجدك في العذاب وخلاصك في اليأس. إنَّ الصليب نفسه، علامة الهوان والألم للإنسان، يظهر الآن بنعمة تضحيتكَ كوعدٍ بأن من كلِّ موت ستبعث الحياة مجدّدًا وفي كل ظلمة سيسطع النور مُجدّدًا. ويمكننا أن نعلن: "السلام لك أيها الصليب، رجاؤنا الوحيد!".

أسألك يا رب، إجعلنا نقبل آلامنا في نور الصليب علامة إيماننا، وإذ تنيرنا محبّتك إجعلنا نُعانق صلباننا التي مجّدها موتك وقيامتك. أعطنا نعمة النظر إلى قصص حياتنا، لنكتشف فيها مجدّدًا محبّتك لنا.

المرحلة الثالثة: يسوع يقع تحت الصليب للمرّة الأولى

لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا؛ فحسِبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومُذلّلاً (أشعيا ٥۳، ٤).

أراك يا يسوع متألِّمًا فيما تسير الدرب نحو الجلجلة حاملاً خطيئتنا. وأراك تقع، ويداك ورجلاك على الأرض متوجِّعًا. ما أكبر التواضع الذي وقعت به! ما أكبر الذلَّ الذي تشعر به الآن! إنَّ طبيعتك كإنسان حقيقيٍّ تظهر بوضوح في هذا الجزء من حياتك. إنَّ الصليب الذي تحمله ثقيل وتحتاج للمساعدة، ولكن عندما تقع على الأرض لا يساعدك أحد لا بل يستهزئ بك الناس ويضحكون أمام صورة إله يقع. ربما قد خاب أملهم، وربما كانوا قد كوّنوا فكرة خاطئة عنك. نحن نفكِّر أحيانًا أن الإيمان بك يعني عدم الوقوع أبدًا في الحياة. معكَ أقعُ أنا أيضًا وتقع معي أفكاري تلك التي كنتُ قد كوَّنتُها عنك: وكم كانت هشّة! أراك يا يسوع، تُصِرُّ على أسنانك، وإذ تستسلم بالكامل إلى محبّة الآب، تنهض وتستعيد مسيرتك. بهذه الخطوات الأولى المُتردِّدة نحو الصليب، تُذكِّرني يا يسوع بطفل يقوم بخطواته الأولى نحو الحياة ويفقد توازنه فيقع ويبكي ولكنّه يتابع. يتَّكل على أيدي أهله ولا يتوقَّف؛ يخاف ولكنّه يسير قدمًا، لأن الثقة تتغلَّب على الخوف. بشجاعتك تعلِّمنا أن الفشل والسقوط لا يجب أن يوقفا أبدًا مسيرتنا وأننا نملك على الدوام خيارًا: إما أن نستسلم وإما أن ننهض معك.

أسألك يا رب أن توقِظ فينا نحن الشباب شجاعة النهوض مجدّدًا بعد كلِّ سقطة، كما فعلت أنتَ على درب الجلجلة. أسألك أن تجعلنا نعرف كيف نقدِّر على الدوام هبة الحياة العظيمة والقيِّمة وأن الفشل والسقوط ليسا أبدًا أسبابًا لنخسرها، مُدركين أننا إن وثقنا بك يمكننا أن ننهض مجدّدًا ونجد القوّة للمضي قدمًا على الدوام.

المرحلة الرابعة: يسوع يلتقي أمّه

وبارَكَهما سِمعان، ثُمَّ قالَ لِمَريَمَ أُمِّه: "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة (لوقا ۲، ۳٤- ۳٥).

أراك يا يسوع عندما تلتقي أمَّك. مريم هناك، تسير على الدرب المُكتظّة وهناك العديد من الأشخاص بقربها، لكنَّ الأمر الوحيد الذي يميِّزها هو أنّها هناك لترافق ابنها. إنها حالة تتكرّر يوميًّا: ترافق الأمهات أبناءهنَّ إلى المدرسة أو إلى الطبيب، أو يأخذنَهم معَهنَّ إلى العمل. لكنَّ مريم تتميَّز عن باقي الأمّهات: هي ترافق ابنها ليموت. أن يرى المرء ابنه يموت هو المصير الأسوأ الذي يمكن أن تتمنّاه لشخص ما، أمر مخالف للطبيعة ولكنّه يكون أقصى إن كان الابن البريء يموت على يد العدالة. يا له من مشهد غير طبيعي وظالم أمام عينيَّ! أمّي ربّتني على معنى العدالة وعلى الثقة بالحياة، ولكن ما تراه عيناي اليوم لا يمُتُّ لهذا الأمر بِصِلة، هو فارغ من المعنى ومليء بالألم. أراكِ يا مريم، فيما تنظرين إلى ابنك المسكين: يحمل علامات الجلد على ظهره وهو مجبر على حمل ثقل الصليب ولربما سيقع قريبًا تحته بسبب التعب. غير أنِّك كنتِ تعرفين أن هذا الأمر سيحدث عاجلاً أم آجلاً، لقد تمَّ التنبؤ عنه إليكِ ولكنّه إذ حصل الآن فكلُّ شيء مُختلف؛ وهكذا هو الأمر على الدوام،  نحن غير مستعدِّين دائمًا أمام الحياة وقساوتها. يا مريم، أنت حزينة الآن، كما قد تكون أي امرأة أخرى مكانك ولكنَّك لست يائسة. عيناك لم تنطفئا ولا تنظران في الفراغ ولا تسيرين محنيّة الرأس. أنتِ تسطعين حتى في الحزن لأنّك تملكين الرجاء وتعرفين أن ما يعيشه ابنك لن يكون سفرًا ذهاب بدون عودة، وتشعرين به كما تشعر به الأمهات فقط، أنّكِ سترينه قريبًا.

أسألك يا رب أن تساعدني، لأحافظ على مثال مريم حاضرًا أمامي على الدوام، هي التي قبِلَت موت ابنها كسرِّ خلاص كبير. ساعدنا لكي نعمل فيما يتوجّه نظرنا نحو خير الجميع ولكي نموت في رجاء القيامة، مدركين أننا لسنا وحدنا أبدًا، وأننا لسنا متروكين من قبل الله ولا من قبل مريم، الأم الصالحة والحريصة على أبنائها على الدوام.

المرحلة الخامسة: سمعان القيرواني يعين يسوع على حمل الصليب

وبَينما هم ذاهِبونَ بِه، أَمسكوا سِمعان، وهو رَجُلٌ قِيرينيٌّ كانَ آتِياً مِنَ الرِّيف، فجَعَلوا علَيهِ الصَّليبَ لِيَحمِلَه خَلْفَ يَسوع (لوقا ۲۳، ۲٦).

أراك يا يسوع، مسحوقًا تحت ثقل الصليب. أرى أنك لن تتمكن من حمله وحدك؛ ففي مرحلة الجهد الأكبر بقيت وحدك وتركك الذين كانوا يقولون إنّهم أصدقاؤك: يهوذا خانك، وبطرس أنكرك، والآخرون تركوك. ولكن هوذا لقاء غير متوقَّع، رجل عادي، ربما قد سمع عنكَ ولكنّه لم يتبعك؛ هو الآن هنا بقربك، كتفه إلى كتفك، يتقاسم نيرك. يُدعى سمعان وهو غريب آتٍ من بعيد، من مدينة قورينا. حدثٌ مفاجئ اليوم يصبح لقاء بالنسبة له. إنها لا متناهية اللقاءات والشجارات التي نعيشها يوميًّا، لاسيما نحن الشباب الذين ندخل باستمرار في علاقة مع وقائع جديدة وأشخاص جُدُد. ففي اللقاء غير المتوقّع والحادثة والمفاجأة المذهلة تختبئ الفرصة لنحبَّ ونتعرّف على ما هو الأفضل في القريب حتى عندما يبدو لنا مختلفًا. أحيانًا نشعر أننا مثلك يا يسوع، متروكون من قبل الذين كنا نعتقد أنّهم أصدقاؤنا، تحت ثقل يسحقنا. لكن لا يجب أن ننسى أنَّ هناك سمعان قيرينيّ مُستعدٌّ ليحمل صليبنا. يجب ألا ننسى أننا لسنا وحدنا ويمكننا أن نستخرج من هذا اليقين القوّة لكي نأخذ على عاتقنا صليب من هم بقربنا. أراك يا يسوع: يبدو أنّك تشعر الآن ببعض الراحة، ويمكنك أن تتنفّس الآن لأنَّك لم تعُد وحدك. وأرى سمعان: من يدري إن كان قد اختبر أنّ نيرك خفيف، ومن يدري إن كان يُدرك معنى ذاك الحدث المُفاجئ في حياته.

أرفع صلاتي إليك يا رب، لكي يتمكّن كلُّ فرد منا، من أن يتحلّى بشجاعة القيرينيّ الذي يحمل الصليب ويتبع خطاك. ولكي يكون كلُّ فرد منا متواضعًا وقويًّا لكي يأخذ على عاتقه صليب الذين نلتقي بهم. وعندما نشعر أننا وحدنا، إجعلنا نتعرّف على دربنا على سمعان قيرينيٍّ يتوقّف ويأخذ حملنا على عاتقه. أعطنا أن نعرف كيف نبحث عن الأفضل في كلِّ شخص، وأن نكون منفتحين على كلِّ لقاء، حتى في الاختلاف. أرفع صلاتي إليك لكي يكتشف كل فردٍ منا نفسه فجأة بقربك.  

المرحلة السادسة: فيرونيكا تمسح وجه يسوع

لا بهاء فننظُر إليه ولا منظر فنشتهيََه. مُزدرى ومتروكٌ من الناس، رجل أوجاع وعارف بالألم، ومثل مَن يُستَرُ الوجه عنه؛ مُزدرى فلم نعبَأ به (أشعيا ٥۳، ۲- ۳).

أراك يا يسوع بائسًا، ويصعَبُ التعرُّف عليك، تُعامل كالأخير بين البشر. تسير بجهد نحو موتك بوجه دامٍ ومشوَّه، ناظرًا نحو العلى بتواضعك ووداعتك المعهودتين. امرأة تمرُّ وسط الجمع لترى عن قرب وجهك الذي، ربما، ولمرات عديدة قد كلّم نفسها وأحبّته. تراه متألَّمًا وتريد أن تساعده. لا يسمحون لها بالمرور، إنهم كثيرون ومسلَّحون. ولكن هذا كلّه لا يهمّها، هي مصمِّمة على الوصول إليك وتتمكّن للحظة من لمسك بوشاحها. قوّتها هي قوّة الحنان. التقت أعينكما للحظة ووقفتما وجهًا لوجه. تلك المرأة، فيرونيكا، التي لا نعرف عنها شيئًا ولا نعرف قصّتها، ربِحَت الفردوس بتصرُّف محبّة بسيط. اقتربت منك ونظرت إلى وجهك المشوَّه وأحبَّته أكثر من قبل. فيرونيكا لم تتوقّف عند المظهر، المهمّ جدًّا اليوم في مجتمعنا، مجتمع الصور، بل أحبَّت بلا شروط وجهًا قبيحًا ومُهملاً وغير كامل. ذلك الوجه، وجهك يا يسوع يظهر في شوائبه كمال محبّتك لنا.

أسألك يا يسوع أن تعطني القوّة لأقترب من الأشخاص الآخرين، ومن كل شخص، شاب أو مُسنّ، فقير أو غني، عزيز علي أو غريب، وأن أرى في تلك الوجوه وجهك. ساعدني لكي أُسرِع لمساعدة القريب الذي تُقيم فيه، تمامًا كما أسرَعَت إليك فيرونيكا على درب الجلجلة. 

المرحلة السابعة: يسوع يقع تحت الصليب للمرّة الثانية

بالإكراه وبالقضاء أُخِذ فمَن يفكِّرُ في مصيره؟ قد انقطع من أرض الأحياء وبسبب معصية شعبي ضُرب... والربُّ رضيَ أن يسحق ذاك الذي أمرضه (أشعيا ٥۳، ۸. ١۰).

أراك يا يسوع تقع مرّة أخرى أمام عينيَّ. بوقوعك مجدّدًا تُظهر لي أنّك إنسان، إنسان حقيقي. وأرى أنّك تنهض مجدّدًا، أكثر تصميمًا من قبل. لا تنهض بغرور، ولا وجود للكبرياء في نظرك بل هناك حب. وفي متابعتك للمسيرة وبنهوضك بعد كلِّ سقطة تُعلنُ قيامتك وتُظهر أنّك مستعدٌّ لتحمل مجدّدًا ودائمًا على كتفيك الداميتين ثقل خطيئة الإنسان. بسقوطك مرّة أخرى أرسلت لنا رسالة تواضع واضحة، وقعت على الأرض على ذلك التراب الذي وُلدنا منه نحن "البشر". نحن تراب، نحن وحل ولسنا شيئًا أمامك. لكنّك أردت أن تصبح مثلنا، والآن تُظهر أنّك قريب منا بتعبنا عينه وضعفنا عينه وعرق جبيننا عينه. والآن، أنت أيضًا، في يوم الجمعة هذا، كما يحصل معنا أيضًا يحنيك الألم. ولكنَّك تملك القوّة للمضيّ قدمًا ولا تخاف من الصعوبات التي يمكنك مواجهتها، وتعرف أنّ هناك الفردوس في نهاية التعب؛ فتنهض لتتوجّه إلى هناك لتفتح لنا أبواب ملكوتك. أنت مَلِك غريب، ملك في التراب. أشعر بالدوار: نحن لسنا أهلاً لأن نُقارن أتعابنا وسقطاتنا بأتعابك وسقطاتك التي تشكِّل التضحية الأكبر التي يمكن لعيناي وللتاريخ بأسره أن يروها.

أسألك يا رب، إجعلنا مُستعدّين للنهوض بعد السقوط، وأجعلنا نتعلّم شيئًا من فشلنا. ذكّرنا بأنّه حين يحين دورنا لنُخطئ ونسقط، إن كُنا معك وأمسكنا بيدك فسنتمكَّن من أن نتعلَّم وننهض. إجعلنا نحن الشباب نحمل للجميع رسالة التواضع خاصتك فتفتح الأجيال الشابة عيونها عليك وتفهم حبّك. علِّمنا أن نساعد الذي يتألَّم ويسقط بقربنا: أن نمسح عرقه ونمدَّ له يدنا لنرفعه.

المرحلة الثامنة: يسوع يلتقي نساء أورشليم

وتَبِعَه جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الشَّعب، ومِن نِساءٍ كُنَّ يَضربنَ الصُّدورَ ويَنُحنَ علَيه. فالتَفَتَ يَسوعُ إِليهِنَّ فقال: "يا بَناتِ أُورَشَليمَ، لا تَبكِينَ عَليَّ، بلِ ابكِينَ على أَنفُسِكُنَّ وعلى أَولادِكُنَّ. فها هي ذي أَيَّامٌ تَأتي يقولُ النَّاسُ فيها: طوبى للعواقرِ والبُطونِ الَّتي لم تَلِد والثُّدِيِّ الَّتي لم تُرضِع. وعِندَئِذٍ يأخُذُ النَّاسُ يَقولونَ لِلجِبال: أُسقُطي علَينا ولِلتِّلالِ: غَطِّينا فإِذا كانَ يُفعَلُ ذلك بِالشَّجَرةِ الخَضْراء، فأَيّاً يَكونُ مَصيرُ الشَّجَرَةِ اليابِسة؟" (لوقا ۲۳، ۲۷- ۳١).

أراك يا يسوع وأسمعك فيما تتحدّث مع النساء اللواتي تلتقي بهنَّ على دربك نحو الموت. لقد التقيت خلال أيامك كلها بالعديد من الأشخاص وذهبت للقاء الجميع وتحدّثت معهم. والآن تتحدّث مع نساء أورشليم اللواتي يرونك ويبكينَ. أنا واحدة من هؤلاء النساء أيضًا. ولكنّك يا يسوع تستعمل في تحذيركَ كلمات تؤثِّر بي، كلمات ملموسة ومباشرة، يمكنها أن تبدو للوهلة الأولى قاسية ومؤلِمة لأنّها صادقة. في الواقع نحن معتادون اليوم على عالم يتجنّب الخوض في الموضوع مباشرة وعلى رياء بارد يخفي ويمحِّص ما نريد قوله فعلاً؛ نتحاشى التوبيخ والتحذير ونفضِّل أن نترك الآخر لمصيره بدون أن نهتمَّ بمساءلته من أجل خيره. يا يسوع فيما تتحدّث مع النساء كأب وتوبِّخهنَّ أيضًا؛ كلماتك هي كلمات حق وتصل مباشرة بهدف الإصلاح فقط لا الإدانة. إنها لغة مختلفة عن لغتنا؛ أنت تتحدّث دائمًا بتواضع وتصل مباشرة إلى القلب. في هذا اللقاء، الأخير قبل الصليب، تظهَر مرّة أخرى محبّتك اللامتناهية تجاه الأخيرين والمهمّشين، في الواقع إنَّ النساء في ذلك الوقت لم يكُنَّ يُعتبرنَ أهلاً للمساءلة، فيما أنك بلطافتك ثوريٌّ فعلاً.

أسألك يا رب، أن تجعلني، مع نساء ورجال هذا العالم أكثر محبّة تجاه المعوزين تمامًا على مثالك. أعطنا القوّة لنسير عكس التيار وندخل في علاقة حقيقيّة مع الآخرين، فنمدَّ جسورًا ونتحاشى الإنغلاق في الأنانيّة التي تقود إلى عزلة الخطيئة.

المرحلة التاسعة: يسوع يقع تحت الصليب للمرّة الثالثة

طُعِن بسبب معاصينا وسُحق بسبب آثامنا، نزل به العقاب من أجل سلامنا وبجُرحِه شُفينا. كُلُّنا ضلَلنا كالغنم كُلُّ واحد مال إلى طريقه فألقى الربُّ عليه إثمَ كُلِّنا (أشعيا ٥۳، ٥- ٦).

أراك يا يسوع فيما تقع للمرّة الثالثة. لقد وقعت مرّتين ونهضتَ مرّتين. لم يعُد هناك حدود للتعب والألم، تبدو مهزومًا نهائيًّا في هذه السقطة الثالثة والأخيرة. كم من مرّة نسقط في حياتنا اليوميّة! نسقط مرات عديدة لدرجة أننا ننسى عددها، لكننا نرجو دائمًا أن تكون كلُّ سقطة الأخيرة، لأننا بحاجة لشجاعة الرجاء لمواجهة الألم. عندما يسقط المرء مرات عديدة تخور قواه في النهاية ويتلاشى الرجاء بشكل نهائي. أتخيَّل نفسي بقربك يا يسوع في المسيرة التي تقودك إلى الموت. من الصعب أن نفكِّر أنّك ابن الله. لقد حاول أحدهم أن يساعدك من قبل ولكنّك مُنهك وجامد، مصاب بالشلّل ويبدو أنّك لن تتمكّن من المضي قدمًا بعد الآن. ولكنّني أرى فجأة أنّك تنهض، تُقوِّم رجليك وظهرَك بقدر ما أمكن مع الصليب على كتفيك، وتستعيد السير مجدّدًا. نعم! أنت تذهب إلى الموت ولكنّك تريد القيام بذلك حتى النهاية. ربما هذا هو الحب. ما أفهمه هو أنّه لا يهمُّ عدد المرات التي نسقط فيها، إذ سيكون هناك على الدوام سقطة أخيرة، وربما الأسوأ، التجربة الأكثر هولاً التي دُعينا فيها لنجد القوّة لنصل إلى نهاية المسيرة. بالنسبة ليسوع، النهاية هي الصلب، الموت غير المنطقي، ولكنه يُظهر معنى أعمقًا وهدفًا أسمى بأن يخلِّصنا جميعًا.

أسألك يا رب أن تعطينا يوميًّا الشجاعة للمضيِّ قدمًا في مسيرتنا. إجعلنا نقبل في العمق الرجاء والمحبة اللذين منحتنا إياهما. ليتمكَّن الجميع من مواجهة تحدّيات الحياة بالقوّة والإيمان اللذين من خلالهما عشتَ اللحظات الأخيرة من مسيرتك نحو الموت على الصليب. 

المرحلة العاشرة: يسوع يُعرَّى من ثيابه

وأَمَّا الجُنود فبَعدَما صَلَبوا يسوع أَخذوا ثِيابَه وجَعلوها أَربَعَ حِصَص، لِكُلِّ جُندِيٍّ حِصَّة. وأَخَذوا القَميصَ أَيضاً وكانَ غيرَ مَخيط، مَنسوجاً كُلُّه مِن أَعلاهُ إِلى أَسفَلِه (يوحنا ۱۹، ۲۳).

أراك يا يسوع عريانًا كما لم أركَ من قبل. لقد حرموك يا يسوع من ثيابك واقترعوا عليها. لقد فقدت في عيون هؤلاء الرجال ذُرَّة الكرامة الوحيدة التي كانت قد بقيت لديك، الشيء الوحيد الذي كنت تملكه في مسيرتك للألم هذه. في بداية الأزمان خاط أبوك ملابسًا للبشر لكي يلبسهم الكرامة؛ والآن ينتزع البشر ملابسك. أراك يا يسوع وأرى مهاجرًا شابًا، جسد مدمَّر يصل إلى أرض غالبًا ما تكون قاسية ومُستعدّة لتنزع عنه ثيابه، خيره الوحيد، وتبيعها؛ لتتركه هكذا مع صليبه فقط، كصليبك وبجسمه المعذّب كجسمك وعينيه المُتألِّمتين كعينيك. لكن هناك أمر ينساه البشر غالبًا ويتعلّق بالكرامة: هي تكمن تحت جلدك، إنها جزء منك وستكون معك دائمًا، ولاسيما في هذه اللحظة في هذا العُري. العُري عينه الذي نولد به والذي تستقبلنا به الأرض في مساء الحياة. من أمٍّ إلى أخرى. والآن هنا، على هذه التلّة، تقف أمّك أيضًا وتراك عريانًا مجدّدًا. أراك وأفهم عظمة وبهاء كرامتك، كرامة كل إنسان التي لا يمكن لأحد أن يمحيها.

أسألك يا رب إجعلنا نعترف بكرامة طبيعتنا، حتى عندما نجد أنفسنا عراة ووحيدين أمام الآخرين. إجعلنا نرى على الدوام كرامة الآخرين ونقدّرها ونحفظها. نسألك أن تمنحنا الشجاعة الضروريّة، لنفهم أنفسنا أبعد مما يكسينا ونقبل عُرينا الذي يذكِّرنا بفقرنا الذي أحببته لدرجة أنّك بذلتَ حياتك من أجلنا.

المرحلة الحادية عشرة: يسوع يُسمَّر على الصليب

ولمَّا وَصَلوا إِلى المَكانِ المَعروفِ بالجُمجُمة، صَلَبوهُ فيهِ والمُجرِمَيْن، أَحَدُهما عنِ اليَمينِ والآخَرُ عَنِ الشِّمال. فقالَ يسوع: "يا أَبَتِ اغفِر لَهم، لأنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا۲۳ ،۳۳- ۳٤).

أراك يا يسوع مُعرّى من كلِّ شيء. لقد أرادوا أن يقاصصوك أنت البريء إذ سمّروك على خشبة الصليب. ماذا كنتُ لأفعل لو كنت مكانهم؛ هل كنتُ تحلَّيت بالشجاعة لأعترف بحقيقتك التي هي حقيقتي؟ لقد تحلّيتَ بالقوّة لتتحمَّل ثقل الصليب وعدم الإيمان بك وأن تُحاكم بسبب كلماتك المُزعجة. واليوم لا يمكننا أن نقبل أي انتقاد، كما ولو أنَّ كلَّ كلمة قد تمَّ التلفُّظ بها لتجرحنا. أنت لم تتوقّف حتى أمام الموت، وآمنتَ بعمق برسالتك ووثقت بأبيك. اليوم، وفي عالم الإنترنت، نحن نتأثَّر بكل ما ينتشر في الشبكة ونشكُّ أحيانًا أيضًا بكلماتنا. لكنَّ كلماتك مختلفة، هي قويّة في ضُعفك. لقد غفرتَ لنا ولم تكُنَّ ضغينة بل علَّمتنا أن ندير الخدَّ الآخر وذهبتَ أبعد من ذلك وصولاً إلى التضحية الكاملة بشخصِك. أنظر من حولي وأرى عيونًا منكبّةً على شاشات الهواتف ومُنهمكة على شبكات التواصل الاجتماعي بتسمير أخطاء الآخرين بدون إمكانيّة للمغفرة. أشخاص في قبضة الغضب يصرخون بأنّهم يكرهون أنفسهم لأسباب تافهة. أنظر إلى جراحك وأُدرك الآن أنني لن أتحلّى بقوَّتك. لكنني جالسة هنا عند قدميك وأتعرّى أنا أيضًا من كلِّ شكٍّ، وأنهض عن الأرض لأكون أقرب منك حتى ولو لبعض السنتمترات فقط.

أسألك يا رب، إجعلني أتحلّى أمام الخير بجهوزيّة الاعتراف به؛ إجعلني أتحلّى، أمام الظلم، بشجاعة أن أحمل مسؤوليّة حياتي وأتصرَّف بشكل مختلف، إجعلني أتحرّر من جميع المخاوف التي تشلُّني كالمسامير وتُبقيني بعيدة عن الحياة التي رجوتها وأعددّتها لنا.   

المرحلة الثانية عشرة: يسوع يموت على الصليب

وكانَتِ السَّاعَةُ نَحوَ الظُّهر، فخَيَّمَ الظَّلامُ على الأَرضِ كُلِّها حتَّى الثَّالِثَة، لأَنَّ الشَّمسَ قدِ احتَجَبَت. وانشَقَّ حِجابُ المَقدِسِ مِنَ الوَسَط. فصاحَ يسوعُ بِأَعلى صَوتِه قال: "يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي!" قالَ هذا ولَفَظَ الرُّوح. فَلَمَّا رأَى قائِدُ المِائَةِ ما حَدَثَ، مَجَّدَ اللهَ وقال: "حقّاً هذا الرَّجُلُ كانَ بارّاً!" (لوقا ۲۳، ٤٤- ٤۷).

أراك يا يسوع، وهذه المرّة لا أريد رؤيتك. أنت تموت. لقد كنت بهجة للعيون عندما كنت تحدِّث الجموع ولكن كلُّ شيء قد انتهى الآن. وأنا لا أريد رؤية النهاية؛ لقد أملتُ نظري إلى الجهة الأخرى مرات عديدة وقد اعتدتُ على الهروب من الألم والموت، لقد تخدَّرت. صرختك على الصليب قويّة: لم نكُن مُستعدّين لهذا الألم، لسنا مستعدين له ولن نكون مستعدين أبدًا. نهرب تلقائيًّا بدافع الخوف، إزاء الموت والألم، نرفضهما ونفضل أن ننظر إلى مكان آخر أو أن نغلق عيوننا. لكنّك تبقى هناك على الصليب، تنتظرنا وذراعاك مفتوحتان وتفتح لنا عيوننا. إنّه لسرّ عظيم يا يسوع: تحبّنا فيما تموت، وأنت متروك وتلفظ الروح متمِّمًا مشيئة الآب. تبقى على الصليب وحسب. لا تحاول أن تشرح سرّ الموت وفناء جميع الأمور، بل تقوم بالأكثر: تعبره بجسدك وروحك. سرٌّ عظيم لا زال يُسائلنا ويُقلقنا؛ يتحدّانا ويدعونا لنفتح أعيننا ونعرف أن نرى محبّتك حتى في الموت، لا بل انطلاقًا من الموت. هناك أحببتنا: في طبيعتنا الأكثر حقيقة، والتي لا يمكن إلغاؤها أو تفاديها. هناك، حتى ولو بشكل غير كامل، نفهم حضورك الحي والحقيقي. سنعطش على الدوام لهذا: لقربك ولكونك الله معنا.

أسألك يا رب أن تفتح عينيَّ، لكي أراك أيضًا في الألم، في الموت وفي النهاية التي ليست النهاية الحقيقيّة. أقلق لامبالاتي بصليبك وهُزَّ سباتي. سائلني دائمًا بسرِّك المُدهش الذي يتخطّى الموت ويعطي الحياة.        

المرحلة الثالثة عشرة: يسوع يُنزَل عن الصليب

وبَعدَ ذلِك جاءَ يوسُفُ الرَّاميّ، وكانَ تِلميذاً لِيسوعَ يُخفي أَمرَهُ خَوفاً مِنَ اليَهود، فسأَلَ بيلاطُسَ أَن يأخُذَ جُثمانَ يَسوع، فأَذِنَ له بيلاطُس. فجاءَ فأَخَذَ جُثمانَه. وجاءَ نيقوديمُس أَيضاً، وهوَ الَّذي ذهَبَ إِلى يَسوعَ لَيلاً مِن قَبلُ، وكانَ مَعه خَليطٌ مِنَ المُرِّ والعودِ مِقدارُه نَحوُ مِائةِ دِرهَم. فحَمَلوا جُثمانَ يسوع ولَفُّوهُ بِلَفائِفَ مع الطِّيب، كما جَرَت عادةُ اليُهودِ في دَفنِ مَوتاهُم (يوحنا ۱۹، ۳۸- ٤۰).

أراك يا يسوع، لا تزال هناك على الصليب. رجل بلحمه وعظمه، بهشاشته ومخاوفه. كم تألّمتَ! إنّه مشهد لا يُطاق، ربما لأنّه مُشبع بالإنسانيّة: هذه هي الكلمة الأساسيّة، رمز مسيرتك المليء بالألم والتعب. تلك الإنسانيّة بالذات والتي غالبًا ما ننسى أن نعترف بها فيك ونبحث عنها في أنفسنا وفي الآخرين، إذ تأخذنا حياة سريعة وصاخبة ونقف عميان وأصمّاء إزاء صعوبات الآخرين وألمهم. أراك يا يسوع: لستَ على الصليب بعد الآن؛ عُدت إلى حيث أتيت، ملقى على حشا الأرض، حشا أمِّك. لقد اختفى الألم الآن وتلاشى. إنها ساعة الشفقة. في جسدك الهامد يتردّد صدى القوّة التي واجهتَ بها الألم؛ والمعنى الذي نجحتَ في إعطائه لها ينعكس في أعيُن من بقي هناك بقربك وسيبقى على الدوام بقربك في المحبة التي تُعطى وتُنال. تنفتح لك ولنا حياة جديدة، تلك السماويّة في ظُلِّ ما يقاوم في وجه الموت: المحبّة. أنت هنا ومعنا في كلِّ لحظة وكلِّ خطوة وكلِّ شكٍّ وظل. وفيما يمتدُّ ظلُّ القبر على جسدك المُلقى بين ذراعي أمِّك، وأنا أراك وأخاف لكنني لا أيأس، أثق أنَّ النور، نورك، سيسطع مجدّدًا.

أسألك يا رب، إجعل أن تبقى حيّة فينا على الدوام شعلة الرجاء والإيمان بمحبّتك غير المشروطة. ونتمكَّن من أن نحافظ على الدوام على النظر إلى الخلاص الأبديِّ حيًّا ومُتَّقدًا، وننجح في إيجاد العزاء والسلام في مسيرتنا. 

المرحلة الرابعة عشرة: يسوع يُدفَن في القبر

وكانَ في المَوضِعِ الَّذي صُلِبَ فيهِ بُستان، وفي البُستانِ قَبرٌ جَديد لم يَكُن قد وُضِعَ فيهِ أَحَد. وكانَ القَبرُ قَريباً فَوضَعوا فيه يَسوع بِسَبَبِ تَهْيِئَةِ السَّبْتِ عِندَ اليَهود (يوحنا ۱۹، ٤۱- ٤۲).

لم أعد أراك يا يسوع، لقد حل الظلام. بدأ ينحدر الظلام من على التلال، ومصابيح السبت تعج في أورشليم، خارج المنازل وفي الغرف. إنها تقرع على باب السماء، المغلق بإحكام. لمن كل هذه الوحدة؟ من يستطيع النوم في ليلة كهذه؟ يتردد في المدينة بكاء الأطفال، وغناء الأمهات، ودوريات العسكر: يموت هذا اليوم وأنت وحدك خلدت للنوم. أتنام؟ وعلى أي وسادة؟ وأي غطاء يحجبك عن العالم؟ يوسف الرامي تابع خطواتك عن بُعد، وها هو الآن يرافقك في نومك بهدوء، يُبعدك عن أنظار الغاضبين والأشرار. كفنٌ يلف جسدك البارد، يجفف الدماء والعرق والبكاء. نزلت عن الصليب، ولكن بخفة. يرفعك يوسف على كتفيه، لكنكَ خفيف: لا تحمل ثقل الموت، والحقد والضغينة. تنام عندما كان يلفّك القش الدافئ، وكان يحملك يوسف آخر بين ذراعيه. وكما لم يكن يوجد مكان لك آنذاك، ها أنت اليوم لا تجد مكانا تلقي فيه رأسك: إلا في الجلجلة، على جمجمة العالم الصلبة، وقد نَمَت هناك حديقة لم يُدفن فيها أي شخص حتى اليوم. أي ذهبت يا يسوع؟ أين نزلتَ سوى إلى الأعماق؟ أين نزلت سوى إلى المكان الذي لم يدخله أحد، إلى أضيق زنزانة؟ إنك عالق في قيودنا، إنك سجين حزننا: مشيتَ مثلنا على هذه الأرض، والآن تجعل لك مكاناً مثلنا تحت الأرض. أريد الهروب بعيدا، لكنك موجود بداخلي؛ يجب ألا أخرج لأبحث عنك لأنك على بابي تقرع.

أصلي إليك أيها الرب، الذي لم يظهر بالمجد بل في صمت ليلة معتمة. أنت لا تنظر إلى القشور، بل ترى في الخفاء وتدخل في الأعماق، اسمع صوتنا من العمق: اجعلنا نحن التعبين أن نستريح فيك ونتعرف فيك على طبيعتنا، ونرى في محبة وجهك النائم جمالنا الضائع.      








All the contents on this site are copyrighted ©.